فصل: باب: الصَّلاةُ مِنَ الإِيمَان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ قِيَامُ لَيلَةِ القَدْرِ مِنَ الإِيمَان

واعلم أني متردد في معنى القيام‏:‏ أنه مأخوذٌ من القيام في الصلاة، أو أنه مقابلٌ للنوم فقط‏.‏ وعلى الأول معنى قوله‏:‏ ‏{‏من يقم‏}‏ أي من يصلي ليلة القدر فله كذا، وإِن كان مأخوذاً من الثاني فمعناه‏:‏ من أحيا ليلة القدر فقط، سواء كان بالصلاة أو الأذكار، أو لم ينم، فله كذا كلفظ الوقوف في عرفات، فإنه لا يشترط فيها القيام وإن كان مستحباً‏.‏ وكذا أتردد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 2‏)‏ إن المأمور به هو القيام للصلاة، أو إحياء الليل، واختار المفسرون أنه القيام إلى الصلاة، فإن كان الأمرُ كما قال المفسرون، فالمقصود من الأمرِ بالقيام هو الصلاة، ويكون المقصود منه القراءة كما يستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 4‏)‏ وإن كان المراد به مطلق القيام، فالمقصودُ هو القرآن، سواء كان في ضمن الصلاة أو غيرها، ومن ههنا أترددُ في النَّسخ أيضاً، أنه في القيام فقط، والقرآن باق إلى الآن، أو في تطويلِهِ مع بقاءِ نفس القيام، والمقصود هو قراءة القرآن في ضمن الصلاة‏.‏

فائدةٌ مهِمَّةٌ في معنى الاحْتِسَاب

قوله‏:‏ ‏(‏إيماناً واحتساباً‏)‏ واعلم أن الاحتساب كثيراً ما يُستعمل في الأحاديث‏.‏ فاعلم أن اشتراطَ الإيمانِ ظاهرٌ، فإنه لا عبرة بالعبادات بدون الإيمان‏.‏ أما الاحتساب فهو مرتبة علم العلم واستحضار النية، وعدم الذهولِ عنها واستشعار القلب بها‏.‏ فإنا وجدناه بعد التتبع مذكوراً في مواضع، أما في مواضع الذهول، إذا يذهل عنها ذاهل، فيوجه الشارع هناك إلى الاحتساب كما في المصائب السماوية، فإنه لا أحدَ يرجو فيها الثواب، لعدم دخله واختياره فيها، فهذا محل التنبيه ليحصل له الأجر، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم لمن مات ولدها‏:‏ «فلتصبر ولتحتسب» فإن الموتَ أمرٌ سماوي مضى عليها كما يمضي على سائر الناس، وربما يمكن أن أَن يتوجَّه الذهنُ فيه إلى أجر، فكان موضع ذُهول‏.‏

فنبَّه على أنه وإن كان أمراً سماوياً، إلا أنه توفرَّ لها الأجرُ إن تصبر وتحتسب، أو في مواضع المشقة، والمجاهدة، كقيام الليل فيذهل فيه عن النية أيضاً من جهة أخرى، لأن ما فيه مِن حَمْل المشاق وإتعاب النفس، ومقاساة الأحزان، يعدُّه المرء طاعةً بنفسه، ولا يرى فيه جهة غير تلك الجهة على نقائض المصائب السماوية، فإنه لا يرى فيها جهةَ الطاعة‏.‏ فوجه الشارع ههنا أيضاً إلى توفير النية ليزداد أجراً، أو في موضع يعدّه الرجل خفيفاً غير موجب لأجر، كما في الإنفاق على الأهل والمجيء من البُعْد للصلاة، فإن الأولَ واجبٌ عليه طبعاً وعرفاً، والثاني وسيلة‏.‏ فالمرادُ منه توفير النيةِ، واستحضارُهَا، وإشعارُ القلب بها في تلك المواضع، فهو مرتبة عِلمِ العلم، دون العلم، وقد مر معنا أنه لا حاجةَ لإحراز مطلق الأجر إلى نية زائدة على ما تكون في الأَفعال الاختيارية، بل تكفي منها ما يكون قُبيل الأفعال الاختيارية‏.‏

نعم، لا بد من انتفاء النية الفاسدة، وبعده لا تجب عليه نية أخرى لتحصيل الثواب، وهذا الشرح أخذته من حديث «مسند أحمد»‏:‏ «من هَمّ بحسنة كتب له عشر حسنات إذا أشعر به قلبه وحرص‏.‏‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏ فهذا هو الاحتساب عندي أي إشعار القلب، وهو أمر زائدٌ على نفس النية، فالنيةُ وإن كانت كافية لإحراز الأجر إلا أن في الاحتساب معنى ليس فيها‏.‏

باب‏:‏ الجِهَادُ مِنَ الإِيمَان

باب‏:‏ تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَان

باب‏:‏ صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَاباً مِنَ الإِيمَان

36- قوله‏:‏ ‏(‏إيمان بي وتصديق‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهذا تنوينٌ في المُسند إليه، فلا تخلو عن فائدة، وإنما الخلاف في تنوين المسند، كما مر فتفيد التبعيض، وتدل على أن إيماناً دون إيمان ‏(‏وتصديق برسوله‏)‏ إن كان بأو العاطفة، فالغرض أنه لا فرق بين الإيمان والتصديق ههنا، إلا باعتبار المتعلق، وهو الله في الإيمان، والرسول في التصديق، بخلاف ما إذا كان بالواو العاطفة، قال الشيخ الأشعري‏:‏ إن التصديق كلام نفسي، وهو قوي أيضاً‏.‏ لأن الشريعة جعلت غايةَ القتال قول‏:‏ لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلّم «أمرتُ أن أقاتلَ الناسِ حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله»، فجعل قولَ تلك الكلمة إيماناً، ومبدأ القول هو الكلام النفسي، والمرادُ منه قول النفس، فإذا قال النفس بتلك الكلمة تبعه اللسان، وأقر بها‏.‏ وقد مر تفصيله من قبل‏.‏

36- ‏(‏من أجر أو غنيمة‏)‏ قيل‏:‏ إن «أو» لا يناسب ههنا‏.‏ فإنها للترديد بين الأمرين، ولا ترديد ههنا، فإن المجاهد لا يخلو عن الأجر بحال‏.‏ قال القرطبي‏:‏ إن الكلام في الأصل كان هكذا من أجر فقط، أو أجر وغنيمة، وكان فيه تكرار، فحذفَ الأجرُ من المعطوف، فصار من أجر أو غنيمة، والاختصار في مثل هذه الواضع شائع‏.‏ لأن حصولَ الأجر معلومٌ، ومفروغ عنه، فصار ذكره حشواً، فحذفه اعتماداً على فَهْم السامع‏.‏ ونظيره ما قرره الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلّم «إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك»، فإن التقابل في الظاهر غير مستقيم، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

أقول‏:‏ والذي ظهر لي أنه يكفي لاستعمال «أو» العاطفة تغاير الحقيقتين فقط، وإن اجتمعا في الخارج، فلا يُشترط فيها المنافاة بحسبِ الخارج‏.‏ وعلى هذا فاستعمال «أو» بين التابع والمتبوع لإفادة أن هذا أمرٌ وهذا أمرٌ آخر، كما في الحديث‏:‏ «من أجر أو غنيمة»، فإن الغنيمة تابعة للأجر‏.‏ ولما كان الأجرُ مغايراً للغنيمةِ صح استعمال «أو»، وهكذا قلت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 158‏)‏ استدل به الزمخشري على أن الإيمان بدون الأعمال غير منج، وقال‏:‏ تقديرُ الآية هكذا‏:‏ لا تنفعُ نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت ولم تكسب في إيمانها خيراً لتصح المعادلة‏.‏ وهذا صريحٌ في أن الإيمان بدون كسب الخير غيرُ منج، وهو مذهب المعتزلة‏.‏ وأجاب عنه ابن الحاجب في «أماليه» وأبو البقاء في «كلياته»، والشيخ ناصر الدين في «حاشية الكشاف»، وكذا الطيبي في «حاشية الكشاف»، وابن هشام في «المُغنى»، وكلامُ الطيبي أجودُ من الكل‏.‏

والذي عندي هو أن «أو» ليست لبيان التنافي بين المعادلين، بل جيء بها لإفادة أن الإيمان شيءٌ آخر والكسبَ شيءٌ آخر‏.‏ وحاصل المعنى‏:‏ نفي الكسبِ والإيمانِ جميعاً، أي لا تنفع إيمانُ نفس لم تكن آمنت ولم تكسب في إيمانها خيراً‏.‏ فانتفاءُ النجاة ليست لانتفاء الكسب مع وجود الإيمان، بل لانتفاءِ الإيمان وكسب الأعمال جميعاً، ولا نزاع فيه‏.‏ فإن سمحت به قريحتُك بقَبوله فاقبله، وإلا فشأنك، وسنقررها بأبسط منه فيما سيأتي، فانتظره‏.‏

باب‏:‏ الدِّينُ يُسْر

يريد‏:‏ أن الإيمانَ بعد كونه كاملاً بجميع أجزائه ينقسم‏:‏ إلى العسر، واليسر، ومع هذا هو إيمان، فصار كالكلي المتكرر بالنوع‏.‏

‏(‏الحنيفية‏)‏ واعلم أن القرآنَ جعل اليهودية، والنصرانية، مقابِلاً للحنيفيّة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 135‏)‏، فالقرآن يذمُ اليهودية، والنصرانية، ويمدح الحنيفية، ولا يُدرى وجهه، فإنهما أيضاً من الأديان السماوية، نعم، لو كانت المَذَمَّة على المتبعِين لما كان فيه إشكالاً، إلا أنها على هذه الأديان‏.‏ فالوجه عندي‏:‏ أن اليهوديةَ والنصرانية في الأصل ألقابٌ لأَتباعِ التوراةِ والإنجيل، ولما حرَّفُوهما وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه، واشتروا به ثمناً قليلاً، وباؤا بغضب من الله، صارت اليهوديةُ والنصرانيةُ، ألقاباً لأتباعِ التوارةِ المحرفة، والإنجيل المحرَّف الذي في أيديهم، فذمه القرآن، وقابل بينهما وبين الحنيفيّة لهذا‏.‏

والحنيفُ في الأصل لقبٌ لإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، وهو الأصل في هذه اللقب، وسائرُ الناس فيه تبعٌ له‏.‏ لأنه كان مبعوثاً إلى الكفار، بخلاف موسى، وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما كانا مبعوثَيْن إلى بني إسرائيل، وهم مسلمون نسباً فلم يُلقبَا به، وإن كان حنيفين قطعاً‏.‏ قالوا‏:‏ الحنيف‏:‏ هو المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحقِّ سُمّي به إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لميله عن الباطل إلى الحق‏.‏ قلت‏:‏ الحنيف هو الذاهب إلى الدين الحق بدون التفاتٍ منه إلى الجوانب والأطراف، وإليه أشار الشيخ فريد الدين العطار‏:‏

از يكى كو وزد وئى يكسوى باش *** يك دل ويك قبله ويك روى باش وقد أمرَ اللَّهُ جميع الناس بالحنيفية فقال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآء‏}‏ ‏(‏البينة‏:‏ 5‏)‏ ثم رأيت في «الملل والنحل»‏:‏ أن الحنيف مقابل للصابيء، ويعلم منه أن الحنيفَ هو المعترف بالنبوة، والصابىء هو المنكر بالنبوة، ومر عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع، ولم يكتب شيئاً شافياً، وقال‏:‏ إن قوم نمروذ كان صابئياً، وكان فيهم الفلسفة، ومن هؤلاء تعلِّمه الفارابي، ثم مر على تلك الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 62‏)‏ ولمّا لم يدرك حقيقةَ الصابئين غَلِطَ في تفسيرها، ففسر قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ‏}‏ إلخ بالصابئين الذين كانوا مؤمنين، وزعم أن اليهود والنصارى كما أنهم مؤمنين في زمنهم مع بقائهم على اليهودية، والنصارنية، كذلك الصابئون أيضاً كانوا مؤمنين في زمانهم، مع بقائهم على الصابئية، مع أنهم لم يؤمنوا قط، فإن فريقاً منهم كان يتدينُ بأول المبادىء على طريق الفلاسفة، وفرقة أخرى كانت تتعبدُ بالنجوم في هياكلهم، وأخرى كانت تنحت الأصنام وتعبدها، صرح به في «روح المعاني» والجَصَّاص في «أحكام القرآن»‏.‏

وقد بحث العلماء عن شؤون الصائبة، وأحسنُ من بحث عنهم هو الإمام أبوبكر الجصاص، تكلم عنهم في ثلاثة مواضع من تفسيره‏:‏ «أحكام القرآن» كلاماً جيداً شافياً محققاً، وكذا ابن النَّديم في «الفهرست»فليراجع، وظني‏:‏ أنهم كانوا يعتقدون بمخترعاتِهِم، وتسويلاتِ شياطينهم، وكان عندهم من أشياءِ النبوة أيضاً، إلا أنهم لم يكونوا يتبعون نبياً خاصاً، وقال بعضهم‏:‏ إن المراد من ‏{‏ومن آمن با‏}‏ من يؤمنُ في المستقبل، وإنما اضطروا إلى هذه التوجيهات، لأن في ظاهر الآية تكراراً في قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ‏}‏ لما مر ذكره في صدرِ الآية أيضاً‏.‏ والوجه عندي‏:‏ أن ‏{‏مَنْ ءامَنَ‏}‏ الثاني استئناف للكلام السابق، للفصل بينه وبين ما يترتب عليه، فإن قوله‏:‏ ‏{‏فلهم آجرهم عند ربهم‏}‏ مرتبط مع قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ فأعيد بالاستئناف ليظهرَ الترتب‏.‏ ثم إني رأيت في كُتُبِ أهل الكتاب أن الحنيفَ عندهم لفظ المذمة، والكاهِنُ من ألفاظ المدح، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأنبياء أيضاً، وفي عرفنا بالعكس‏:‏ الحنيف من أوصاف الأنبياء، والكاهن من أوصاف الكفار‏.‏ قال صلى الله عليه وسلّم «من أتى كاهناً وصدقه فقد كفر» أو كما قال، والحاصل‏:‏ أن المرادَ من الحنيفية الآن هو الملةُ الإبراهيمية، وسيجيء بعض الكلام في باب التيمم‏.‏

39- ‏(‏لن يشادَّ الدين‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أي من أراد أن يعملَ بالعزائم فقط ولا يترخصَّ بالرخصِ، يكون مغلوباً من الدين، ويَغْلِبُ عليه الدين آخراً ولا يستطيعُ أن يداومَ عليه، فليعمل بالعزائم والرخص‏.‏

39- ‏(‏فسددوا وقاربوا‏)‏ من السداد بالفتح، وهو‏:‏ القصد‏.‏ وحاصله عندي‏:‏ أن اقتصدوا في الأعمال واتركوا التعمق، وترجمته في الهندية ‏(‏ميانه روى كرو اور بلنديروازى نكرو‏)‏ فاغتنمه غنيمةً باردةً، فإنه سهلٌ ممتنعٌ، وإن كثيراً من الناس عن حقيقتِهِ لغافلون، فلا يدركونَ مراد هذين اللفظين‏.‏

39- ‏(‏واستعينوا بالغدوة‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وكان مولانا قطب العالم الشيخ الجنجوهي رحمه الله تعالى يؤوله بالذكر في الغدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة، وإن ورد الحديث في الجهاد‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةُ مِنَ الإِيمَان

واعلم أن ههنا إشكالين‏:‏ الأول‏:‏ أنه لا خفاء في أن العمل بالمنسوخ قبل نزول الناسخ مقبولٌ، فما وجه إشكال الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيمن ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس‏؟‏ والجواب‏:‏ أنه كان أول نُسْخ في الإسلام، كما رُوِي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلم يكونوا يعلمون المسألة‏.‏ والإشكال الثاني على ترجمة المصنف رحمه الله‏.‏ وحاصله‏:‏ أنه لم يكن للصحابة تردد في الصلوات التي صُليت إلى بيت الله، إنما كان الترددُ فيما صليت إلى بيت المقدس، وإذن لا معنى لتفسيره بِالصلاة عند البيت، فإنه لم يكن لهم إشكال في تلك الصلوات، مع أنه روى النسائي وغيره في الحديث المذكور فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ‏}‏‏:‏ صلاتَكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف رحمه الله تعالى‏:‏ «عند البيت» مشكلٌ، مع أنه ثابتٌ في جميع النسخ‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ إن المرادَ من البيت هو بيتُ المقدس، و «عند» بمعنى إلى، فصار الحاصل‏:‏ يعني إلى بيت المقدس‏.‏

قلتُ‏:‏ والمعروف من البيتِ عند الإطلاقِ بيتُ الله، دون بيتِ المقدس‏.‏ وأجاب عنه النووي‏:‏ أن المراد منه الصلوات بمكة، وهو أيضاً كما ترى، فإن الترددَ والشبهة إنما كان في الصلوات التي صُليت بالمدينة سبعةَ عَشَرَ شهراً إلى بيت المقدس‏.‏ وقال الحافظ رحمه الله‏:‏ مقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة وبيان ذلك‏:‏ أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره‏:‏ كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لم يكن يَسْتدِبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس‏.‏ وأطلق آخرون‏:‏ أنه كان يصلي إلى بيت المقدس‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبلَ بيت المقدس، وهذا ضعيف، يلزمُ منه دعوى النَّسخ مرتين، والأول أصح، وراجع التفصيل من «شرح المواهب» للزُرْقَاني‏.‏

وكأن البخاري أراد الإشارةَ إلى الجزم بالأصح، من أن صلاتهم عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على قوله‏:‏ «عند البيت»، ولم يقلْ إلى بيت المقدس، اكتفاءً بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت، وهم عند البيت، إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيعَ إذا غابوا عنه، فتديرُ الكلامِ هكذا يعني‏:‏ صلاتكم التي صليتُمُوها عند البيت إلى البيت المقدس‏.‏ قلت‏:‏ إن «عند» ههنا للزمان، والمراد منَ البيت هو بيت الله‏.‏ والمعنى‏:‏ أن صلاتَكم إلى بيت المقدس لم تضع عند كون البيت قبلة، وحينئذٍ «عند» زمانية لا مكانية‏.‏

بحثٌ أنيقٌ في استقابلِ الكعبة واستقبالِ بيت المقدس، وهل كانا قِبْلتين، أم كانت الكعبة قِبلة لجميع الملل،

وهل النسخ وقع مرة أو مرتين‏؟‏

بقى الكلام في أن استقبالَ بيت المقدس كان من الاجتهاد، أم من الوحي، فحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في «هداية الحيارى» أن مكةَ شرفها الله وبيتَ المقدس كانتا قبلتين من قبل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام عيَّنهما، فالقبلتان إبراهيميتان‏.‏ وذهب جماعة إلى أن بيت المقدس لم تكن قِبلة قط، وإنما كان بنو إسرائيل مأمورينَ باستقبال التابوت في صلواتهم، ولم تكن لهم جهة متعينة لصلواتهم، وإنما كانوا يستقبلون بيت المقدس من عند أنفسهم، لا أنها كانت قِبلة لهم، ووجهه أن سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام لما بناه في زمانه، وضع التابوت في البيت، فجعلوا يستقبلونه لأجل التابوت، لا لكونها قِبلة، إلا أنه لما استمر بها العمل اشتهرِ أنها قِبلتهم‏.‏

قلتُ‏:‏ ولي فيه تردد‏.‏ والأصلُ أن الذبيحَ اثنان‏:‏ إسحاق عليه الصَّلاة والسلام وقرب به في بيت المقدس، فكانت قِبلة لبني إسرائيل، وقرب بإسماعيل عليه الصَّلاة والسلام في بيت الله، فجعلت قبلة لِبَنِيْهِ، وفي التوراة تصريحٌ بأن يعقوبَ عليه الصَّلاة والسَّلام كان غَرَزَ خَشَبةً في بيت المقدس، وكان أوصى لبنيه أن يجعلوها قِبلةً عندما تفتحُ عليهم الشام، وكان أصل التعيين من أبيه، وحينئذٍ تحصَّلَ أن القبلتين كانتا على تقسيم البلاد، فبيت الله كانت قبلةً لأهلها، لأنهم كانوا بني إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام، وبيت المقدس لأهل المدينة وأمثالهم، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة توجه إلى البيت تبعاً لأهل بلدته، لأن قِبلتَه إذ ذاك كانت هي البيت، لكونه في بلدة قبلتها تلك البيت، فلما تحول إلى المدينة توجه إلى ما كان أهلُ تلك البلدةِ يتوجهون إليها، على ما مر أن تقسيم القِبلتين كان على تقسيم البلاد، لا أن بيتَ الله كانت قبلةً ثم صارت بيت المقدس، قِبلة، بل كلتاهما كانتا قبلتين على السوية، إلا أنهما كانتا على تقسيم البلاد، فلم تكن القبلتان في مكة والمدينة من اجتهاده صلى الله عليه وسلّم بل كانتا على الأصل، يعني من لدن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، ولكنه توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في الموضعين بحَسَب تقسيم البلاد، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يحب أن يوجَّه إلى البيت، لأنه كان من بني إسمعيل، فكان يحب قبلة أجداده‏.‏

وعلى هذا التقرير، لا حاجةَ إلى القول بتكرر النسخ كما علمت‏.‏ ولك أن تقول‏:‏ إن حاله في الاستقبال يُشبَّهُ بحاله ليلة المعراج، فكما أنه عُرج به من بيت المقدس، ولم يُعرج به من البيت ابتداءً، كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالاستقبال إلى بيت المقدس أولاً، ثم إلى البيت ثانياً، فإن المقرَّ ونهاية السفر هو بيت الله، وحينئذٍ لا بِدْعَ في تكرر النسخ‏.‏ وقد عدّ السيوطي رحمه الله تعالى عِدَّة أشياء تكرر فيه النسخ، على أن بيتَ الله كالديوان الخاص، وبيتَ المقدس كالديوان العام، لا يكون إلا لحاجة، والمقرُّ الأصليُ هو الديوان الخاص، فهذا النظر أيضاً يؤيد كون البيت قِبلة بمكة، ثم بيت المقدس بالمدينة لحاجة، ثم البيتُ قِبلة إلى الأبد‏.‏

واعلم أن إطلاق الإيمان على الصلاة ليس من باب إطلاق الكل على الجزء كما قال بعضهم، بل لأن صلواتهم إلى بيت المقدس في ستةَ عَشَر أو سبعةَ عشَرَ شهراً إن ضاعت كلها، فكأنه ضاع إيمانهم، وهذا وإن كان فيه إطلاق الإيمان على الصلاة أيضاً، إلا أنه ليس من الباب الذي فهم، بل هو راجعٌ إلى باب السِّراية دون الجزئية، وحينئذٍ يضعُف استدلال المصنف رحمه الله تعالى منه‏.‏

40- ‏(‏أول صلاة صلاها صلاة العصر‏)‏ وفي السير أنها الظهر وجمع الحافظ رحمه الله تعالى بينهما بأن أول صلاةً صُليت إلى بيت الله هي صلاة الظهر، نزل النسخ فيها بعد الركعتين وكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذ ذاك في مسجد ذي القِبْلتين، وأول صلاةً صلاها بتمامها إلى البيت هي صلاة العصر، وكانت في المسجد النبوي‏.‏

وفي «وفاء الوفى بأخبار دور المصطفى» للسَّمْهُودي وهو تلميذ ابن حجر رحمه الله تعالى ما يدل على أنها نزلت في المسجد النبوي، دون مسجد ذي القبلتين، والحافظ ذَهَلَ عنه‏.‏ ثم رأيت في تفسير الشيخ محمود الآلوسي رحمه الله تعالى عن حاشية السيوطي رحمه الله تعالى على البيضاوي‏:‏ أنه كان يرذُ توجيه الحافظ، ويرجح رواية السِّير على «صحيح البخاري»، والسيوطي رحمه الله تعالى وإن لم يكن مثل الحافظ، لكن رأيت الآلوسي رحمه الله تعالى أيضاً اختار ترجيح رواية السير، فترددت فيه بعده أيضاً‏.‏

40- ‏(‏فمر على أهل مسجد‏)‏ قال العيني‏:‏ إن هؤلاء أهل مسجد القِبْلتين، ومرّ عليهم المار في صلاة العصر، وأما أهل قُباء، فأتاهم آتٍ في صلاة الصبح‏.‏

40- ‏(‏وأهل الكتاب‏)‏ قيل‏:‏ إن كان المرادُ منهم اليهود فقد مر ذكرهم، وإن كان النصارى فليست قِبلتهم بيت المقدس، بل هي بيت لحم، جانب الشرق من بيت المقدس، وهو مولد عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، فكان الأمران عندهم سواء، فَلِمَ سخطوا على التحويل عنها‏؟‏ والجواب‏:‏ أن المراد منهم النصارى، ووجه إنكارهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كان يستقبلُ بيتَ المقدس وهو بالمدينة، كان يقع استقباله إلى بيت لحم أيضاً، فإنهما في سَمتٍ واحد من المدينة، فلما ولَّى عنها لزمَ التحولُ عن قبلتهم أيضاً، فأنكروا لهذا‏.‏ أو يقال‏:‏ إنهم أيضاً كانوا يسمون بيت المقدس قِبلةً، فإنهم كانوا يدعون بتعبد الديانة الموسوية، والقبلة فيها بيتُ المقدس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

40- ‏(‏قال زهير‏)‏ قال الكَرْماني‏:‏ إنه تعليق‏.‏ قلت‏:‏ والصواب ما قاله الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ إن المصنف رحمه الله تعالى ساقه في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير‏.‏

40- ‏(‏اقتلوا‏)‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ لم أجد روايةً سوى رواية زهير تدل على قتلِ رجلٍ قبل التحويل، لعدم وقوع غزوة في تلك المدة‏.‏ أقول‏:‏ إن نفي القتل مطلقاً مشكل، ويمكن أن يراد به القَتْلُ بمكة لا المدينة كما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى آخراً‏.‏

40- ‏(‏فلم ندر ما نقول‏)‏ المشهور أن الشبهة كانت في صلواتهم‏.‏ ويحتملُ عندي أن تكونَ الشبهةُ في دفن الموتى، فإنها دُفنت قبل القِبلة، وأثرُهَا باقي بعد التحول أيضاً، بخلاف الصلاة، ولذا خصَّها الراوي بالذكر‏.‏ وعلى الوجه المشهورِ لا يظهرُ بتخصيص الموتى معنى، فإن الأحياء والأموات كلهم مشتركون في إضاعة الصلوات لو ضاعت وقد مر إن وجه الإشكال فيه كونه أول نَسْخ كما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏.‏ قلت‏:‏ فيه نظر إلا أن يكون أولاً باعتبار الشُّهرة، فإنه أولُ نسخٍ اشتُهر، لنزاعِ أهل الكتابين فيه‏.‏

باب‏:‏ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْء

قسم الإسلام إلى الحُسن وغيره بعد تقسيمه إلى العسر، واليسر، والحُسن أيضاً من الإيمان، كما أن حُسنَ الوجهِ من الوجه‏.‏ واعلم أن ههنا إشكالاً‏:‏ وهو أن المصنفَ رحمه الله تعالى تركَ قِطعة من الحديث وأخرجها النووي رحمه الله تعالى في «شرح مسلم» وقال‏:‏ ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طُرُق، وثبت فيها كلَّها أن الكافرَ إذا حَسُنَ إسلامهُ يُكتب في الإسلام كل حُسَنَة عملها في الشرك‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه القطعة ليست في البخاري فقال قائل‏:‏ إن المصنفَ رحمه الله تعالى حَذَفَها لإشكالها، لأنها تدلُ على أن حسناتِ الكافر أيضاً معتبرة‏.‏

قلت‏:‏ وهو كما ترى، والوجه عندي‏:‏ أن تلك القِطعة الواردة في حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله تعالى عنه ليست في أحدٍ من الروايات التي رُويت في هذا الباب، أي في معنى هدم معاصي الكفر بعد الإسلام، وإن كانت ثابتة في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «الإسلامُ يهدمُ ما كان قَبْله» وإن كان مغايراً لحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بحسَب ضابطة المحدثين، إلا أنه لاتحادِ المعنى يمكنُ أن يكونَ واحداً عند المصنف رحمه الله تعالى‏.‏

ولما لم ترد تلك القطعة في أحد من تلك الروايات سوى حديثِ أبي سعيد رضي الله تعالى عنه فيما أعلم تردد فيها وتَركها والله أعلم‏.‏

بقي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قلنا يا رسول الله أنؤاخذُ بما عملنا في الجاهلية‏؟‏ فقال‏:‏ «من أحسنَ في الإسلام لم يؤاخذْ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأولِ والآخر»‏.‏ فقال النووي رحمه الله تعالى في «شرحه»‏:‏ إن المراد بالإحسان الدخولُ في الإسلام ظاهراً وباطناً، ومن الإساءة عدم الدخول في الإسلام بقلبه، وكونه منقاداً في الظاهر مُظهِراً للشهادتين غير معتقدٍ للإسلام بقلبه، فهذا منافق باقٍ على كفرِهِ بإجماع المسلمين، فيؤاخُذُ بما عمل في الجاهلية، قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارِهَا، لأنه مستمرٌ على كفره‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ والمراد من إحسانِ الإسلامِ عندي أن يُسلم قلبُهُ، ويتضمن إسلامهُ التوبة عما فعل في الكفر، فلم يعد بعد الإسلام إليها، فهذا الذي غُفر له ذنبه‏.‏ ومن إساءة الإسلام أن يُسلم ولم يتضمن إسلامُهُ التوبة عن معاصيه التي زلفها في الكفر، واستمر على ما كان، فهذا وإن صار مسلماً إلا أنه يُؤخذُ بالأول والآخر، وعلى هذا فحديث الهدم محمولٌ على ما تضمن إسلامُهُ التوبة، وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على ما لم يكن كذلك‏.‏

ثم ههنا حديث آخر عن حكيم بن حزام عند مسلم‏:‏ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أرأيتَ أموراً كنت أتحنثُ بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أسلمت على ما أسلفت من خير» وهذا يدل على اعتبار حسناتِ الكافر في كفره‏.‏ وأوَّلَه الناسُ بتأويلات ذكرها النووي رحمه الله تعالى‏.‏ وعندي لا تأويل فيه، بل هو على ظاهرِه، وليَ جزمٌ بأن طاعاتِ الكفار نافعة بتاً،كما مر في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه صراحةً من أن الكافرَ إذا حَسُنَ إسلامه يكتب له في الإسلام كلُ حسنة عملِها في الشرك‏.‏

إلا أن حسناتِ الكافر على نحوين منها كالحِلْم، وصلة الرَّحم، والإعتاق، والصدقة، فهذه كلُّها نافعةٌ له في الآخرة، وإن لم تكنُ منجية، فإن المنجيَ من النار هو الإيمان لا غير، إلا أنها تصير سبباً لتخفيف العذاب شيئاً، ولذا أجمعوا على أن الكافرَ العادل أخفُّ عذاباً من الكافر الظالم، وكذا عُلم من الشريعة تفاوت دركات العذاب، وليس هذا إلا لنفع الطاعات يسيراً‏.‏

بقيت العبادات، فلا تعتبرُ أصلاً، فما أول به النووي في «شرحه» قول الفقهاء، وقال‏:‏ وأما قول الفقهاء‏:‏ لا تصح من الكافر عبادة، ولو أسلم لم يُعتدّ بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة‏.‏ انتهى‏.‏ ليس بصواب عندي قطعاً، فإن عبادات الكفار ليست بمعتبرة في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة، ولذا لم تُذْكر في حديث حكيم بن حِزَام غير العتق وأمثاله، ولم تذكر فيها العبادات أصلاً‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن الطاعاتِ والقُرُباتِ، كلُّها نافعةٌ للكافر، أما العبادات فغيرُ معتبرةٍ أصلاً بلا تأويل والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏

باب‏:‏ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُه

أي ينقسم الدين إلى الأحبِّ وغيره، كما انقسم إلى العسير، واليسير، والأحسن، وغيره‏.‏ ثم ذلك أيضاً إيمان‏.‏ قال العلماء‏:‏ إن القليل الذي دِيْم عليه خيرٌ من الكثير الذي لم يداوَم عليه، كما في الحديث، ومثَّلَه الغزالي رحمه الله تعالى أن الماء إذا قَطَرَ على حجارةٍ قطرة قطرة، ولم يزل كذلك يقطرُ، فإنه يثقبُ فيه يوماً، بخلاف إذا صُبَّ صباً، فإنه لا يؤثر فيه بشيء‏.‏

‏(‏لا يمل‏)‏ قيل‏:‏ إن الملال لا يُنسب إلى الله تعالى، فالنفي فيه على سبيل المُشَاكلة، والمراد منه أن الله تعالى لا يتركَ الإثابة ما لم تتركوا العبادة‏.‏ قلت‏:‏ وشاكلتُه كاليد، والأصابع، والوجه، فما قُرر فيها يقرر فيه أيضاً‏.‏ وسيجيء عليه الكلام في موضعه إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي‏.‏

باب‏:‏ زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِه

وقد مر بعض الكلام عليه في باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال‏.‏ ورُوي عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى أن الإيمانَ يزيدُ ولا ينقص، وكأنه مأخوذٌ مما رُوي عند أبي داود في كتاب الفرائض عن معاذ بن جبل‏:‏ «أنه ورث المسلم عن الكافر ولم يورثه من المسلم وقال‏:‏ الإسلام يزيد ولا ينقص»‏.‏ قيل في شرحه‏:‏ أي يعلو ولا يُعلى‏.‏ وقد مر معناه‏:‏ «أن رجلاً من اليهود» قيل‏:‏ هو كعب الأحبار، وكذا وقع في بعض الروايات مُسمّى، وقوله يدل على حقية الإسلام عنده‏.‏

45- ‏(‏قال عمر رضي الله تعالى عنه‏)‏‏:‏ حاصلُ جوابِهِ القولُ بالموجَب، لأن نزولَ الآية في حَجَّةِ الوداع من يوم عرفة في عرفات لتاسع من ذي الحِجَّة‏.‏

باب‏:‏ الزَّكاةُ مِنَ الإِسْلام

واعلم أن قِصة هدا الرجل تُشبه بقصة ضِمام بن ثعلبة، فاختلفوا فيه أنهما واقعتان، أو واقعة واحدة، وأتى ضِمام في السنة الخامسة، فاعلمه‏.‏

46- ‏(‏إلا أن تطوع‏)‏ واستدلَ منه الشافعية على نفي وجوب الوتر، وليس بشيء‏.‏ واستدل منه الحنفية أيضاً على أن النوافلَ تلزمُ بالشروع، وجعلوا الاستثناء متصلاً، أي فإنه يجب عليك‏.‏ وجعله الحافظ رحمه الله تعالى منقطعاً‏.‏ قلت‏:‏ إن مالكاً رحمه الله أيضاً يوجب القضاء فيما أبطله بلا وجه‏.‏ وأجمع الكلُّ في إيجاب القضاء بعد إفساد الحج‏.‏ ونظر الحنفية في سائر العبادات كنظرهم في الحج‏.‏

وأحسنُ ما يُستدل به للمذهب ما اختاره صاحب «البدائع» وقال‏:‏ إنه نذرٌ فعليٌ، فقسم النذرَ إلى قولي وفعلي، وجعل الشروعَ نذراً فعلياً، وهذا جيد جداً‏.‏ أما الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ‏}‏ ‏(‏محمد‏:‏ 33‏)‏ فليس بناهضٍ، لأن الآيةَ إنما سيقت لبطلان الثوابِ لا للبطلان الفقهي، كما يدل عليه السياق، فهي كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 264‏)‏‏.‏

ثم أقول‏:‏ إن الحديث خارجٌ عن موضع النِّزَاع، فإن الإيجاب المذكورَ فيه إنما هو الإيجابُ من جهة الوحي، ومسألة لزومِ النفل بالشروع إنما هو في إيجابِ العبد على نفسه شيئاً بِخَيْرَتِهِ وطوعه، فافهم ولا تعجل‏.‏

«وأبيه» وفيه حَلفٌ بغير الله‏.‏ قال الشوكاني‏:‏ وهو من فَلَتَات لسانِهِ صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله أن تجري على لسانه فَلْتة ما تكون فيه شوائب الشرك‏.‏ مع أنه قد ثبت عنه في نحو أربعة أو خمسة مواضع، وقيل‏:‏ إنه تصحيف «والله»، وقيل‏:‏ إنه منسوخ وهو مهمل‏.‏ وأحسنُ الأجوبة ما ذكره الجلبي في «حاشية المطول» على لفظ‏:‏ «ولعمري»،

والشامي على «الدر المختار» في خطبته‏:‏ أنه قَسَمٌ لغوي لا شرعي، والمقصودُ في الأول تزيينُ الكلام لا غير، والمطلوبُ من الثاني التأكيدُ مع تعظيم المحلوف به، والممنوعُ هو الثاني دون الأول، والمذكورُ هو الأول دون الثاني‏.‏ ثم عندي أنه ينبغي الحجرُ عنه مطلقاً سداً للذرائع لئلا يتساهل فيه الناس‏.‏

بقي أن هذا الرجل حلف على ترك السنن والمستحبات فكيف هو‏؟‏ قلت‏:‏ أولاً في بيان المسألة‏:‏ إن الأمرَ مع الوعيدِ على الترك يفيدُ الوجوبَ عند ابن الهمام رحمه الله تعالى وابن نجيم كليهما، والمواظبة الكلية بدون الوعيد على الترك يفيد الوجوب عند ابن الهمام رحمه الله تعالى، والسنة عند ابن نجيم، والفعل أحياناً مع الترك أحياناً يفيد السنية عندهما‏.‏

وههنا اختلاف آخر‏:‏ وهو أن ترك السنة يوجبُ العتاب أو العقاب‏؟‏ فذهب الشيخ ابن الهمام إلى أن ترك السنة عِتابٌ، وابن نجيم إلى أنه يوجب العقاب‏.‏ قلت‏:‏ ولعل النزاع لفظي، لأن السنة التي يجبُ بتركها العقابُ عند ابن نجيم، داخلة في الواجب عند ابن الهمام رحمه الله تعالى، والإثم بترك الواجبِ متفقٌ عليه، فحينئذٍ فالإثم فيه عند ابن الهمام لكونه تركاً للواجب عنده، وإن كان عند صاحب البحر تركاً للسنة المؤكدة، فالإثم عند ابن نجيم يكون على تركِ الواجب، وترك السنة المؤكَّدةِ كليهما، غير أنَّ الإثمَ في الأول أزيدُ من الإثم في الثاني، وأنا مع ابن نجيم رحمه الله تعالى في تلك المسألة‏.‏ هذا إذا كان الاختلاف المذكور من تفاريع الخلاف الأول، وإن كان الاختلاف فيه مبتدئاً فله وجه، ولا أدخلُ فيه، فإنه حكمٌ بالتأثيمِ على جميع الأمة‏.‏

نعم، قال محمد رحمه الله تعالى في «موطئه»‏:‏ ليس من الأمر الواجب الذي إن تَرَكَه تاركٌ أثم فخرجَ منه أن ترك السنة قد لا يوجبُ الإثم، كما أن التثليثَ سنةٌ وتركُهُ لا يوجب الإثم‏.‏ قلت‏:‏ وينبغي أن يُقيدَ بتركه أحياناً، أو بقدر ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم لا مطلقاً‏.‏ وهو الذي اختاره المحقق ابن أمير حاج تلميذ ابن الهمام رحمه الله تعالى وصرح بالإثم إذا اعتاد الترك‏.‏ ثم إن عبارةَ محمد رحمه الله تعالى تدلُ على ثبوتِ مرتبة الواجب، فإنها تشعر بتقسيم الواجب عنده‏:‏ إلى ما لا إثم بتركه، وإلى ما بتركه إثم، وليست تلك المرتبة عند الجمهور، وهي عند الشافعي رحمه الله تعالى في الحج فقط، وعندنا في جميع العبادات المقصودة، وتُوجد هذه المرتبة في «المبسوط» أيضاً‏.‏ وليس له اسم في كتاب الطحاوي، وهو من المتقدمين، ولذا اعتنيتُ بلفظِ محمد رحمه الله تعالى هذا‏.‏

46- ‏(‏والله لا أزيد على هذا ولا أنقص‏)‏ قيل في توجيهه‏:‏ إنه محاروةٌ لتحفظ الأمور‏.‏ وقيل معناه‏:‏ لا أزيدُ عددَ الفرائض ولا أنقُص منها وهو مهمل‏.‏ والأول ينتقض بما أخرجه البخاري في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر‏:‏ والله لا أتطوع فإنه صريحٌ في نفي التطوع والقصْرِ على الفرائض، فسقط ما أجاب به المجيبون‏.‏ والوجه عندي أن هذا الرجل جاء إلى صاحب الشريعةَ واسترخَص منه بلا وَاسطة، فرخَّصَ له الشارع خاصة، فيصير مستثنى من القواعد العامة، كما في الأضحية «ولا تجزىء عن أحد بعدك»‏.‏ وهذا أيضاً باب يعلمه أهل العرف، فلا أثر له على القانون العام، فمن أراد أن يترخصَ برخصتِهِ فليسترخَّص من الشارع، وإذ ليس فليس‏.‏

وأشار إليه الطِّيبي رحمه الله تعالى أيضاً إلا أنه لم يفصِحْ بمراده، وأراد الزرقانيُّ إعلالَ تلك الرواية من جهة إسماعيل بن جعفر‏.‏ قلت‏:‏ وهو غير مسموع، كيف وقد أخرجه البخاري‏.‏ وعند أبي داود من باب المحافظة على الصلوات عن عبد الله بن فَضَالة عن أبيه قال‏:‏ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكان فيما علمني‏:‏ وحافِظ على الصلوات الخمس، قال‏:‏ قلت‏:‏ إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمرٍ جامع إذا أنا فعلتُهُ أجزأ عني فقال‏:‏ «حافظ على العصرين» إلخ ومر عليه السيوطي رحمه الله تعالى وقال‏:‏ ولعل هذا الرجل إنما فرضت عليه هاتان الصلاتان فقط، واستثناه النبي صلى الله عليه وسلّم عن الحكم العام‏.‏

قلت‏:‏ بل التخصيص بهما لمزيد الاهتمام بهاتين الصلاتين، وقد ورد التأكيد بهما في حق جميع الأمة أيضاً، كما رواه أبو داود مرفوعاً «لا يلج النار رجلٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب»‏.‏ ورواه غيره‏:‏ «من صلى البَرْدَين دخل الجنة» فليس في حديث فَضَالة غير ما في تلك الأحاديث، وحينئذٍ ليس هذا الرجل مخصوصاً من قاعدة كليةٍ كما زعمه السيوطي رحمه الله تعالى‏.‏ وعندي عليه رواية أيضاً، وهنا إشكال آخر‏:‏ وهو أنه كيف بشره بالفلاح على أداءِ الزكاة والصلوات الخمس فقط، مع أن في الإسلام أحكاماً غيرها‏.‏ وجوابهُ أن في بعضِ طرقه‏:‏ فأخبره بشرائع الإسلام‏.‏

باب‏:‏ اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَان

والمشيُ عندنا خلفَ الجنائز أولى لأنه للتعظيم‏.‏ وعند الشافعي رحمه الله تعالى أمامها أولى لأنه للشفاعة، ولفظُ الاتباع بمادَّتِهِ أقربُ إلى نظر إمامنا رحمه الله تعالى‏.‏

47- ‏(‏واحتساباً‏)‏ إنما جيء به لأن الناس لا يحتسبون فيه أجراً بل يحسَبونهُ من مراسم المودة، فهو موضعُ ذهولٍ عن النية، فنبَّه عليه الشارع لئلا يُذْهَل عنها ويُحرم عن توفير الثواب‏.‏

47- ‏(‏حتى يُصلى عليها‏)‏ قال العلامة القاسم في «فتاواه»‏:‏ إن صلاةَ الجنازةِ في المسجد مكروهة تنزيهاً‏.‏ وعند بعضهم مكروهة تحريماً‏.‏ والعلامة القاسم تلميذ لابن الهمام كابن أمير حاج‏.‏ وقال صدر الإسلام أبو اليَسَر‏:‏ إنها إساءة، وهي رتبة بين التحريم والتنزيهة‏.‏ وإنما اشتهرُ بأبي اليَسَر لكون تصانيفه أقرب إلى الفهم، ويسمى أخوه الكبير بفخر الإسلام أبو العسر، لكون تصانيفه على خلافه‏.‏ وعند محمد رحمه الله تعالى‏:‏ لا تجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم بنى له مكاناً منفصلاً إلى جنب المسجد ولو جازت فيه لما كان إلى بنائه حاجة ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّم صلاة الجنازة في المسجد إلا مرةً أو مرتين، فلا تكون أصلاً وضَابطة، وخروج النبي صلى الله عليه وسلّم من المسجد للصلاة على النجاشي دليل على كراهيتها في المسجد، فإنه لم يكن هناك احتمالُ التلوث أيضاً، ومع ذلك لم يصل فيه‏.‏ ولم يقف الحافظ ابن حجر رحمه الله على تعيينُ مصلى الجنائز، وذلك لأنه حج مرتين فلم يتفق له تحقيق الأمكنة، بخلاف تلميذِه السَّمهودي فإنه أقام بالمدينةُ مدةً مديدة وحققَ المواضع، فالعبرةُ لقولِ السمهودي في أمثال هذه المسائل‏.‏

باب‏:‏ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا يَشْعُر

وهذا التعبير مأخوذٌ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 2‏)‏ واعلم أن هذه الترجمة لها تعلق وارتباط مما قبلها من التراجم‏:‏ كفر دون كفر وباب المعاصي من أمر الجاهلية‏.‏

وحاصلها عندي‏:‏ التحذير من الجَرَاءة على المعاصي، وأنه ينبغي للمؤمن أن يخاف من سوء الخاتمة، ولا يغتر بكونه على صلاح الحال، فإن الكفر قد يطرأ في وسط العُمُر، وأخرى عند الموت، والعياذ بالله‏.‏ وهذا كفر تكويناً لا تشريعاً، يعني أن الرجل ربما يرتكب المعاصي ولا يحكم عليه بالكفر لأجلها، لكنها قد تؤدي إلى سلب الإيمان عند الموت من جانب الله تكويناً، فحذَّر المصنف رحمه الله تعالى عن هذا النوع من الكفر، أو أراد به الرد على المرجئة خاصة القائلين‏:‏ بأنه لا تضرُ مع الإيمان معصية، فرد عليهم‏:‏ بأن المعاصي من شأنها إحباط العمل حتى تؤدي إلى سلب الإيمان أيضاً، كما كان رد قبلَها على المعتزلة في باب المعاصي من أمر الجاهلية‏.‏

ومن أقوى شبه المعتزلة‏:‏ أن المعصيةَ دليلٌ لنقصان التصديق، فإن من أذعن بكون الحيةِ في هذا الحجر مثلاً، لا يُدْخِلُ يده فيها أبداً، فكذلك من صدَّق بأن الزنا موجبٌ للنار، ينبغي أن لا يأتي به‏.‏ وإتيانُهُ دليلٌ على ضَعفٍ في تصديقه ونقصانٍ في اعتقاده‏.‏

قلت‏:‏ كلا، بل الإنسان قد يقتحم المعاصي مع بقائه على التصديق واليقين، اعتماداً على أبواب المغفرة وتوثقاً برحمة الله تعالى‏.‏ فإذا همّ بالسيئة تطلَّع قلبه في تلك الأبواب حتى يقعَ في المعصية‏.‏ وهذا كالسارق يَسْرِقُ مع أنه مذعنٌ بأن السَّرِقة جَرِيْرة، وجزاؤه الحبسَ في الحكومة الحاضرة وما ذلك إلا لتطلعه في أبواب أُخر، فيزعم لعله لا يظفرُ به مثلاً، ولو ظفر به فلعله لا تثبت عليه جَرِيْرته، ولو ثبتت فلعله يُعفى عنه إلى غير ذلك من الاحتمالات‏.‏ فكذلك فيما نحن فيه، يخوض الإنسان في المعاصي ويعتمد على رحمته تعالى، أو أنه يتوبُ قبل الموت وغير ذلك‏.‏

وبالجملة قد يحدثُ بين الأسباب تزاحمٌ، فيميل القلبُ تارةً إلى هذا وأخرى إلى ذاك، على أن الناس خُلقوا على أصناف‏:‏ فمنهم من تغلِبُ عليه القوة الشهوانية فيزداد في المعاصي ولا يحاشى، ومنهم من يكونُ على عكسِه فيزداد في الطاعات، ألا ترى أن كثيراً من الدُّعَّار واللصوص يفسدون في الأرض، ويعلمون كالشمس في نصف النهار أنهم يعُذَّبون بأصناف من العذاب، ثم لا يتوبونَ وذلك لِغلَبَةِ الشهوة والهوى فيهم‏.‏

وبالجملة الإقدام على المعاصي لا يوجب النقصان في التصديق الذي هو مدار النَّجاة‏.‏

ومن أقوى شبه المُرْجئة أن المؤمنَ العاصي لو دخل جهنم لزمَ دخولُ الإيمان فيها، وإذا لم يدخل الكفرُ في الجنة، فكيف دخل الإيمان في جهنم‏؟‏ والجواب‏:‏ أن العاصي إذا دخل في النار يُنْزَعُ عنه إيمانه ويوضُع عند باب النار؛ كما يُنْزَعُ اليومَ ثياب المجرم عند باب السجن، ثم إذا خرج من سجنه يُعطى ثيابَه‏.‏ كذلك المؤمن يُنْزَعُ عنه الإيمان عند إلقائه في النار، ثم يُعطى إيمانَه بعد تعذيبه على قدر ذنوبه وإخراجه من النار‏.‏

وقد علمت سابقاً أن المصنف رحمه الله تعالى تعرض في هذا الباب إلى التخويف المجرد، ولم يرض بأن يأولَ الأحاديث التي أطلق فيها لفظ الكفر على المعاصي‏:‏ بأنه على طريق التخويف دون التحقيق‏.‏ وقد مر من قبل بعض ما يتعلق به فراجعه‏.‏

‏(‏كلهم يخاف النفاق‏)‏ فمن أين جاز للمُرجئة أن يقعدوا مطمئنين بإيمانهم فعلى المؤمن أن يخافَ كل آن‏.‏ أما اختلافهم في جواز القول‏:‏ بأنا مؤمنٌ إن شاء الله تعالى، فلا يرجع بعد التحقيقِ إلى كثير طائل، فإن الترددَ في نفس إيمانه في الحالة الراهنة، غير جائز عند الكل، والاستثناءُ باعتبار الخاتمة جائز عن الكل، فمن مَنَعه فباعتبار الحالة الراهنة، ومن أجازه فبالنظر إلى الخاتمة فإنه لا يَعلمُ أحدٌ على ماذا يختمُ له، على الإيمان أو على الكفر‏؟‏ والعياذ بالله‏.‏ قال صلى الله عليه وسلّم «والله لا أدري ما يفعل بي وأنا رسول الله ولا بكم»‏.‏ أو كما قال كما في الصحيح‏.‏

‏(‏ما منهم أحد يقول إيماني على إيمان جبريل وميكائيل‏)‏ وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان‏.‏ وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في‏:‏ «تذكرة الحفاظ» بإسناد صحيح‏:‏ لا أقول‏:‏ إيماني كإيمان جبريل‏.‏ ونسب ابن عابدين الشامي إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى عدم جواز الكاف والمثل كليهما في تلك العبارة‏.‏ وفي «الدر المختار» عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى جواز الكاف دون المثل في رواية، وفي رواية أخرى الجواز مطلقاً‏.‏ وجمعهما ابن عابدين أن جوازَ الكاف دون المثل لمن كان عالم العربية، وعدم جوازهما فيما لم يكن المخاطب صحيح الفهم، وجوازهما باعتبار نفسهما‏.‏ وليراجع البحث من كتابه من باب الطلاق الصريح‏.‏

قلت‏:‏ وفي «خلاصة الفتاوى» وجدت نقلاً عن محمد فقط، وعلى هذا لم تجىء في هذا الباب رواية عن الإمام رحمه الله تعالى وثبت النفي عن الصاحبين، وظاهره يدل على إثبات التفاوت في درجات المؤمنين بحسب الإيمان‏.‏

‏(‏وما يحذر من الإصرار‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فمن أصر على نفاقِ المعصية يُخشى عليه أن يُفضي إلى نفاق الكفر‏.‏ وكأن المصنف رحمه الله تعالى أشار إلى ما عند الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مروفعاً‏:‏ «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة»‏.‏ قال الحافظ‏:‏ إسناده حسن‏.‏ وهذا الخوفُ على الطالحين كما أن ما قبله كان في خوفِ الصالحين، فإنهم كانوا يخافون على أنفسهم النفاق، وهذا الخوف كان لصلاحِهم فلا يردُ أن إيمانَنَا أقوى منهم، لأنه لا يخطرُ ببالنا النفاق، وذلك لأنهم كانوا أخشى خلقِ الله بعد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام‏.‏ وطريق الخائف أن يخافَ على نفسه كل حين، بخلاف غيرهم من الناس فإن قلوبَهم خاليةٌ عن تلك الخشية، فلا تذوقُ من ذلك الخوف ذواقاً، ومن لم يذق لم يدر، بخلاف الطالحين فإنه يُخاف عليهم النفاق لسوء أعمالهم‏.‏

48- ‏(‏وقتاله كفر‏)‏ قيل‏:‏ مقابلته بالفسوق يقتضي أن يكونَ المرادُ من الكفر ههنا، الكفر المخرج عن الملة‏.‏ والجواب‏:‏ أنه أطلقَ الكفر على الفسوق تغليظاً، ولو قال‏:‏ وقتاله فسوق، لساوى حال السِّباب، مع أن القتال أشدُ من السِّباب، فلإظهار هذه الشِّدة أطلقَ عليه الكفر‏.‏

وهذا الذي يُعنونَ بقولهم‏:‏ إنه محمولٌ على التغليظ‏.‏

والأصل‏:‏ أن الحديث اتَّبع القرآن في ذلك، فإن الله تعالى أخبرَ عن جزاءِ القتل بالخلود- بأي معنى كان- والخلود جَزَاء الكفر، فاتبَّعه الحديث وقال‏:‏ قتال المسلم كفر‏.‏ وإن لم يحكم به الفقهاء في الدنيا، إلا أن الحديثَ يختارُ من التعبيرات ما هو أدعى للعمل فيشددُ فيه لا محالة‏.‏

وقال الدَّوَّاني‏:‏ إنه وعيدٌ ويجوز الخُلْفُ في الوعيد‏.‏ وأنت تعلم أنه إنشاءٌ لا خبر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه محمولٌ على التَّشبُه كقوله‏:‏ «لا تَرْجِعُوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقاب بعض» ومعلومٌ أن المرءَ لا يصير كافراً بضرب الرقاب، ولكن لما كان شأنُ القتل أن يجري بين مسلم وكافر، لا بين مسلم ومسلم فمن ضرب رقبة أخيه وقاتل، فقد تشبه بالكفار، وفعل ما يفعلُهُ الكفار، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم‏.‏ وهذا هو المختار عندي في الجواب، والله أعلم‏.‏

فائدة

قد سمعت أن بين هذه الأبواب الأربعة مناسبةً وارتباطاً، الأول‏:‏ باب المعاصي من أمر الجاهلية‏.‏ والثاني‏:‏ باب كفرٌ دون كفر، والثالث‏:‏ باب ظلمٌ دون ظلم‏.‏ والرابع‏:‏ باب خوف المؤمن أن يحبط عمله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فإن فيها على المشهور إيمَاضَاً إلى ما نقلته عن ابن تيمية وتأويلاً للأحاديث التي أُطلقَ فيها الكفرُ على المعاصي‏.‏ وقد بنيت لك ما سَنَحَ لي فيها- والله أعلم- لأن كلامَه مبهمٌ، فلكلٍ وجهةٌ هو مُوَلِيها‏.‏ أما مطابقةُ جوابِ أبي وائل للسؤال عنهم، فبأن مقتضى الحديثِ تعظيمُ حق المسلم، والحكمُ بالفِسق على من سَبَّه بغير حق، وبالكفرِ على من قاتله، فكأنه قال‏:‏ كيف تكون مقالة المرجئة حقاً والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول هذا‏؟‏

49- ‏(‏فتلاحى رجلان‏)‏ أي تنازع‏.‏ قال الحافظ‏:‏ إن المخاصمةَ مستلزمةٌ لرفع الصوت، وهو محبطٌ للعمل بالنص، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ترفعوا أصواتكم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ وبه يتضح مناسبة الحديث للترجمة‏.‏ وقد خفيت على كثير من الشارحين‏.‏

49- ‏(‏فَرُفعت‏)‏ وفي رواية قويةٍ ما يَدلُ بظاهره على رفعِ أصلها عن هذه الأمة‏.‏ أقول‏:‏ بل المرادُ منها رفعُ العلم القطعي بها، لا رفعُ ليلة القدر كما فهمه الشيعة خذلهم الله، لأنا قد أُمِرْنا بالتماسها، ولو كانت رفعت مطلقاً لما كان لطلبها معنًى‏.‏ ومن هنا ظهرت المناسبةُ للترجمة على وجه آخر أيضاً وهو‏:‏ أن التنازع صار سبباً لرفع علم ليلة القدر، فكذلك المعصية قد تكون سبباً للحبط‏.‏

49- قوله‏:‏ ‏(‏في السبع‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، واعلم أن الشارحين عامّة ذهبوا إلى أن المأمورَ به هو التماسُها في ليلة واحدةٍ من تلك الليالي‏.‏ والمرادُ عندي أحياءُ كلها لأجل ليلة القدر‏.‏ وهي وإن كانت في الأوتار دون الأشفاع، لكن القيامَ مطلوبٌ في الكل، فكأنَّ التماسَها يكونُ بالقيام في العشر، أو السبع، أو الخمس، وهو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلّم وحالِ الصحابة رضي الله عنهم‏.‏ ثم أقول‏:‏ إن قَسَمتَ الشهرَ على العشرات فليلة القدر في الأخيرة منها، وإن قسمتَها على الأسابيع فهي في الأسبوع الأخير، وإن قسمتَها على الأخماس فهي في الخمس الأخير، وكيف ما كان تكونُ في وترٍ منها‏.‏ هذا، وإن لم يُقرعْ سمعُك به من قبل، لكنه هو التحقيق إن شاء الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النبي صلى الله عليه وسلّم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَالإِحْسَانِوَعِلمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ النبي صلى الله عليه وسلّم لَه

والغرضُ منه احتراسٌ مما يشنأُ من قوله‏:‏ إن الإسلام والإيمان واحد، مع أن هذا الحديثَ يدل على المغايرة‏.‏ وحاصلُ جوابِهِ على ما قرر الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ أن الإيمان والإسلام لكل منهما حقيقةٌ شرعية، كما أن لكلٍ منهما حقيقةً لغوية، وكل منهما مستلزمٌ للآخر بمعنى التكميل له‏.‏ فكما أن العامَل لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقدُ لا يكون مؤمناً كاملاً إلا إذَا عمل‏.‏ وحيثُ يُطلق الإيمانُ في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلقُ أحدهما على إرادتهما معاً، فهو على سبيل المجاز ويتبينُ المرادُ بالسياق، فإن وردا معاً في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معاً، أو لم يكن المقامُ مقامَ السؤال، أمكن الحمل على الحقيقة، أو المجاز، بِحَسَبَ ما يظهر من القرائن‏.‏ ومحصَّلُ جوابه أن الإيمانَ والإسلامَ يفترقان إذا اجتمعا على صورة المقابلة، وحيث انفردا يكون أحدهما عينَ الآخر كما هو صنيعهم في المترادِفَات، فإنها إذا اجتمعت يفرَّق بينها في ذلك المقام خاصة‏.‏

وإذن فالفرق في حديث جبرائيل مقاميٌّ ولا يدل على أن الإسلام والإيمان متغايران حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم بيَّنَ لوفدِ عبد القيس أن الإيمانَ هو الإسلام، حيث فسَّر الإيمانَ في قصتِهم بما فسرَّ به الإسلام ههنا‏.‏ وفي ضمن الجواب استدل المصنف رحمه الله لمذهبه بالآية، بأنها صريحة في أن الدينَ والإسلام شيء واحدٌ فظاهر جوابه معارضُة وبعد الإمعان حُلّ‏.‏ وقد يقرر الجواب بطريق آخر أيضاً‏:‏ وهو أن الاتحادَ بين الدين والإسلام ثابت من الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 19‏)‏ واتحادَ الإسلام والإيمان ثابتٌ من حديث وفد عبد القيس فثبت اتحاد الكل‏.‏

والمصنف رحمه الله تعالى لم يفصِح بالجواب، وهذا دأبه كثيراً في كتابه، حيث يذكرُ مادةَ الجواب ولا يفصِحُ بمراده‏.‏

أقول‏:‏ وهذا الجوابُ غير مسقيمٍ، لأن التغايرَ المقاميُّ إنما يكون إذا كان اللفظان في عبارةٍ واحدة، وههنا لم يقع السؤال أولاً إلا عن الإيمانِ فحَسب، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمُ أنه سائل بعد ذلك عن الإسلام أيضاً حتى يجاب بالتغاير المقاميِّ‏.‏ وإنما ذكر أولاً حقيقةَ الإيمان على ما كان عنده بدون نظرٍ إلى مفهوم الإسلام، حتى إذا سُئل ثانياً عن الإسلام أيضاً أجابه كذلك، فالجواب بالفرق باعتبار المقام لا يمشي ههنا‏.‏

نعم، لو كان هناك سلسلة الأسئلة في عبارة واحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أجابَ عنها أيضاً كذلك لكانَ له وجه‏.‏ فالوجه عندي‏:‏ أن الجواب إنما يُلقى على السائل بقدرِ علمِهِ وفَطَانته، وسؤالُ جبرائيل عليه السلام وكذا حالُهُ لمَّا دلا على كمال فَطَانته، أجابه مفصلاً بذكر حقيقة كلٍ على حدة، بخلاف وفد عبد القيس فإن ضِمَام بن ثعلبة كان حديثَ العهد بالإسلام، فاكتفى في جوابه على الإجمال ولم يلتفت إلى بيان الحقائق‏.‏

وحاصله‏:‏ أنه راعى حال المخاطُب في كلا الحديثين، كما أن الذي يعظُ الناسَ يراعي ما يحرِّضُ على العمل، فربما يذكر الضَّعاف من الأحاديث عند الترغيب والترهيب ولا يفصِّلُ في كلامه، ويقول‏:‏ تارك الصلاة كافر، ولا يقول‏:‏ كافر بكفرٍ دون كفر‏.‏ بخلاف المعلم الذي يتصدى لإظهار الحقائق فيذكر حقيقةَ الأمرِ ويُنَبِّه على المسامحات، ويفصِّلُ في المتعلَّقات‏.‏ فحاصل حديث جبرائيل عليه السلام‏:‏ إعطاء العلم، وبيان الحقيقةِ كما يفعلُ المعلم وهو الأقرب بسياقه، بخلاف حديث وفد عبد القيس فإنَّ حاصِلَه التحريضُ على العمل، وفي مثله يتمشَّى على الإجمال فيُتسامحُ في البيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بارزاً يوماً للناس‏)‏ والبروز‏:‏ الظهور‏.‏ وعند الحافظ رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يجلسُ بين أصحابه، فيجيءُ الغريب فلا يدري أيهم هو‏.‏ فجعلنا له مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه‏.‏ قال‏:‏ فبنينا له دكاناً من طين كان يجلس عليه‏.‏

‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فذكر تحته الأشياءَ الغائبة، كما مر تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى‏:‏ أن الإيمان لا يتعلق إلا بالمغيبات‏.‏

‏(‏وبلقائه‏)‏‏:‏ وهذا هو الجزءُ الذي يتميزُ به الإسلامُ عن سائر الأديان الباطلة‏.‏

فإن أهل يونان عقيدتهم أن العلومَ الحقَّة كلها تحصلُ في الأنفس بعد افتراقِها عن الأبدان، وتصيرُ جميعُ الأشياء مشهودةً لها، فيحصل لها بها سرورٌ، وهو جنتها ونعيمها، وإن لم يحصلُ لها العلوم أو حَصَلَتْ على خلاف ما كانت في الواقع، فهذا يكون غماً عليها أبداً وهو عذابُها وجحيمُها‏.‏ وعندهم العقول بدل الملائكة، ولقاءه تعالى عندهم محال‏.‏

وأما هنادكة الهند فيقولون‏:‏ بحلول الألوهية في الجُثْمان ويُسمونَها ديوتا، واوتار ويعبدونَها ويزعمونَ بالتناسخ، فليس أحدٌ منهم قائل باللقاء إلا أهل الدين السماوي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كانَ يرجُوا لقاءَ ربه فليعملْ عَمَلاً صالحاً‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 110‏)‏‏.‏ ثم اعلم أنه ليس بين الدنيا والقيامةِ مسافةٌ يصلُ إليها بعد قطعها، بل تظهرُ القيامةُ من هذه الدنيا بعد خرابها، كما تظهرُ الشجرة من النواة، فإن النواةَ تنشقُّ، وينفُضَ قِشرهَا، وتفنى صورتُها، ثم تظهر من حاقها الشجرة، كذلك الدنيا بعد الانفطار والاندِكَاكِ تفنى وتنعدِم، ومنها تخرجُ القيامة‏.‏ وليست القيامةُ في بقعة أخرى وموطن غيرها، بل يسوَّي لها ذلك المكان وذلك الموطن‏.‏

ولي قصيدة بالفارسية في تمثل البرزخ والحشر وأطوار الوقائع، ومنها‏:‏

51- ‏(‏ما الإحسان‏)‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ وأشار في الجواب إلى حالتين‏:‏ أرفعُها، أن يغلبَ عليه مشاهدة الحقِ بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله‏:‏ ‏(‏كأنك تراه‏)‏ أي وهو يراك‏.‏ والثانية‏:‏ أن يستحضرَ أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل وهو قوله‏:‏ ‏(‏فإنه يراك‏)‏‏.‏

وقال النووي‏:‏ معناه إنك إنما تُراعي الآداب المذكورة إذا كنتَ تراه ويراك لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائماً يراك، فأحسن عبادتَه، وإن لم تره، فتأويل الحديث‏:‏ فإن لم تكن تَرَاه فاستمرَ على إحسانِ العبادة، فإنه يراك‏.‏ انتهى ملخصاً‏.‏

واعلم أن لفظَ الإحسانِ شاملٌ لجميعِ أنواع البر من الأذكار من الأذكار، والأشغال وغيرها‏.‏ والأذكارُ تقالُ للأوراد المسنونة، وما ذكرهُ المشايخ من الضربات والكيفيات يقال لها‏:‏ الأشغال‏.‏ والنسبة في اصطلاحهم‏:‏ ربطٌ خاصٌ سوى ربطِ الخالقية والمخلوقية، فمن حصل له ربطٌ سوى الربط العام يقال له‏:‏ صاحب النسبة‏.‏

والطرق المشهورة في التصوف أربعة‏:‏ السُّهْورْدِية، والقَادِرِية، والجشْتِية، والنَّقْشَبَنْدِية، والسلسلة السهروردية قد تسلسلت في أجدادنا من عشرةٍ متصلةٍ ثم ما نقل إلينا من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد سُمِّي شريعةً‏.‏ والتخلُّقُ بها يُسمَّى طريقةً، وحينئذٍ تنصَبِغُ الأعمال بصبغ الإيمان كما كان في السلف‏.‏ أما اليوم فعلمٌ بلا عمل، وإيمانٌ بلا تصديق من الجوارح، «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنُهُ»‏.‏ ثم الفوزُ بالمقصد الأسنى، والنيلُ بالمأرب الأعلى يُسمَّى حقيقةً‏.‏ ومن ههنا ظهر أن الطريقةَ والشريعةَ لا تتغايران كما زعمه العوامِّ‏.‏

وقد كتب الغزالي أن بعضَ العلمِ لا يُضطرُ العَالِمُ إلى العمل به، وبعضه يغلِبُ عليه، ويستعملُ الأعضاء في الطاعات، وهذا هو الإيمان عند السلف، وهو المرادُ بما قلت‏:‏ إن الإيمان ينبسِط من الباطنِ إلى الجوارحِ، والإسلام يدخل من الظاهر إلى الباطن‏.‏ فإن التصديقَ إذا غلب واستعمل الأعضاء صارَ الإسلامُ والإيمانُ متحدين، وهو المراد باتحاد المسافتين، وإلى هذا المقام أشير في قوله‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فإن العبادة التي تتعلقُ بالجوارح إذا صدرت عنه بذلك الخشوعِ والخضوعِ فقد خَرَجَ إيمانه إلى الأعضاء ودخل إسلامه في القلب واتحدت المسافتان، وحينئذٍ فالإسلام والإيمان شيء واحدٌ، بخلافِ ما أذا بقيَ تصديقهُ في القلب ولم يظهر إلى الأعضاء، أو اقتصر إسلامه على الأعضاء ولم يحصل له الإحسان، فبقيَ إسلامه على الأعضاء فقط ولم يسرِ إلى القلب، فهذا الإسلامُ غير الإيمان، والإيمانُ غير الإسلام، وقد ذكرناه سابقاً أيضاً‏.‏

50- ‏(‏ما المسؤول عنها‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، ولم يقل‏:‏ لست بأعلمَ منك، لأن الكناية أبلغُ من التصريح، كقوله تعالى ‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 23‏)‏ وذلك لكونه أبلغ‏.‏

50- ‏(‏إذا ولدت الأمة‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أي تصير الأصول فروعاً والفروعُ أصولاً‏.‏ فالمرادُ منه انقلابُ الأمورِ عند إبَّانِ الساعة‏.‏ وفيه شروحٌ عديدٌ أخرى أكثرها مرجوحةٌ عندي‏.‏ ويؤيدُ ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة»، فهو الحريُّ بالأخذ، لأن الحديثَ يفسرُ بعضَه بعضاً‏.‏ ثم إن التمسك فيه على جواز بيع أمهات الأولاد أو على عدم جوازه في غير موضِعه، فلم نلتفت إليه‏.‏

50- ‏(‏في خمس‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أي علمُ وقتِ الساعةِ داخلٌ في خمس‏.‏ ثم اعلم أن هذه الخمسَ لما كانت من الأمور التكوينية دون التشريعية، لم يُظْهِر عليها أحداً من أنبيائه إلا بما شاء، وجعل مفاتيحه عنده فقال‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏ 59‏)‏ لأنهم بُعِثُوا للتشريع، فالمناسبُ لهم علومُ التشريع دون التكوين‏.‏ ثم المراد منه أصولها‏.‏ وأما علمُ الجزئيات فقد يُعطى منه الأولياء رحمهم الله تعالى أيضاً، لأن علمَ الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، لكونها محطاً للتحولات والتغيرات، ولأن علماً جزئياً لا يوصل إلى علمٍ جزئي آخر فكأنه ليس علماً‏.‏ وإنما العلمُ علمٌ يوصِلُ إلى علمِ جميع أفرادِ ذلك النوع، وليس ذلك إلا علمُ أصولِ الشيء‏.‏

ألا ترى أن ألوفاً من المصنوعات تُجْلبُ إلينا من ديار الأوربا ونحن نشاهدها ونعلمها، ولكن لا علم لنا بأصولها، فأيّ علم حصَّلناه بتلك الجُزئيات‏؟‏ ولكنّ العلمَ هو العلمُ الكُلي يتمكنُ به صاحبه من علمِ الجزئيات من ذلك النوع بأسرها ويطلع على حقائقها، وإليه أشار سبحانه بالمفاتح، فإنك إذا أُوتيت مِفْتَاحَاً قَدَرْتَ على فتح المغاليق كُلِّها مهما أردت، وليس هذا الشأن إلا شأن العلم الكلي فلم يُعط أحدٌ إلا جُزئيات منتشرة‏.‏

أما العلمُ الذي كالمفتاح فهو عند ربك الذي لا تخفى عليه خافية، وحينئذٍ صح الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ‏}‏ بدون تأويل‏.‏ أما تخصيصُ الخمس مع أن أصولَ الأشياءِ الأُخر أيضاً لا يعلمها إلا هو‏.‏ فقيل‏:‏ إن هذه أنواع والكل راجع إليها‏.‏ قلت‏:‏ بل لأن سؤال السائل لم يقع إلا عن هذا الخمس، كما ذكره السيوطي في شأن نزولها في «لباب النقول في أسباب النزول» وفي «الدر المنثور»‏.‏

باب

هذا بابٌ بلا ترجمة والمناسبةُ ظاهرة، لأن هِرَقْل كان عالماً بالتوراة، وأنه أطلق الإيمان على الدين فقال‏:‏

‏(‏هل يرجع أحد سخطة لدينه‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏وكذلك الإيمان‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ فدل قولُهُ على أن الدينَ والإيمان واحدٌ عنده‏.‏ وهذا الحديث أظهرُ في مقصوده مما سبق، لأنه أطلق الدينَ فيما سبق على مجموع الإيمان والإسلام والإحسان‏.‏ وقال في آخره‏:‏ «جاء يعلم الناس دينهم»‏.‏ ويمكن المناقشة فيه بأن النزاع في اتحاد الدين والإيمان‏.‏ أما كونُ المجموع ديناً فليس محلاً للخلاف، وما أخرجه ههنا صريح في اتحاد الدين والإيمان، فكان أظهرُ في مقصوده‏.‏ ثم البَشَاشةُ في حديثه إشارةٌ إلى مرتبةِ الإحسان‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِه

والمرادُ منه الاحتياطُ في الدين، وهو وإن كان خارجاً من الدين باعتبار بعض الجهات، لكن المصنفَ رحمه الله تعالى جَعَلَهُ أيضاً من الدين يعني إذا أحرزَ الرجلُ من دينه القدْرَ الضروري واحتاط بعد ذلك استبراء لدينه، فهل يُعدُّ ذلك من الدين مع أنه أحرز دينَه من قبل‏؟‏ فقد عُلم من الحديث أنه أيضاً من الدين وإن كان زائداً عليه من جهة أخرى‏.‏ وهذا تقسيم آخر للدين والإيمان إلى من استبرأ لدينه، وإلى مَنْ لم يستبرىء‏.‏ ولمن استبرأ لدينه زيادةُ فضلٍ على من سواه، فدل على ثبوت المراتب في الإيمان‏.‏ ثم العبادةُ شيءٌ وجودي، والزهد‏:‏ قِلةُ رَغْبَةٍ في الدنيا، والورع‏:‏ احترازٌ عن الشُّبهاتِ، فهو شيء عدميٌّ‏.‏

واعلم‏:‏ أن هذا الحديثَ من مُهِمَّاتِ الحديث وتصدّى لشرحه العلماء والفضلاء، وكتبوا عليه رسائلَ مستقلة ولكنّ الحديثَ مهمٌ، وموضوعُهُ يحتاجُ إلى شرح الأئمة، ولا ينفعُ فيه كلام الآخرين، فإنه يتعلق بالحِلِّ والحرمة‏.‏ ولا يمكنُ لنا الآن إلا شرحُ ألفاظِهِ فقط، ولو انكشفت حقيقته لوجدنا ضابطة الحلال والحرام من جهة صاحب الشريعة، ولكان هذا فصلاً في الباب، فإن ظاهرَ الحديث أن الحلالَ بيِّن في نفسه والحرام أيضاً كذلك، ولكن لا ندري ماذا أراد بقوله‏:‏ «مشتبهات» فإن الاشتباه حاصل في كثير من المواضع، ثم لا تكون تلك بين الحلال والحرام، بل تكون تلك المشتبه إما حلالاً أو حراماً‏.‏

والحاصل‏:‏ أن في الحديث ضَابِطةٌ كليةٌ للباب الفقهي، ولكن لم يتحصَّل عندنا منه شيءٌ غير حلِّ الألفاظ‏.‏ ولما كان في المثل السائر‏:‏ ما لا يُدْرَك كله لا يُترك كله، رأينا أن نتكلم عليه شيئاً‏.‏ فنقول‏:‏ إن الحديث بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكامِ والمسائل إلى الحوادث والوقائع، وذكر ضابطةً عُرْفية، ولذا تعرض إلى استبراء العِرْض، فاندفع ما كان يخطر بالبال أنه لا دخل لذكر العِرض في باب الحلال والحرام، فمعناه أن الرجل إذا اتقى الشبهات ومواضعَ التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعِرْضَه عن القدح فيه، وهو مرادُ قول علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ إياك وما يَسبقُ إلى الأذهان إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل سامعٍ نكراً يطيقُ أن تسمعَه عذراً‏.‏ فإنه ليس وارداً في المسائل فقط بل أعم منها‏.‏ وكذلك الحديث وردَ صدرُهُ في المسائل وعجزُهُ في الحوادث مطلقاً‏.‏ وقوله‏:‏ «فقد استبرأ» على نحو استبراء المُدَّعى عليه عن نفسه في دار القضاء، أي فمن فعلَ كذلك وترك الشُّبهات فقد أحرزَ نفسَه عن أن تسري أوهامُ الناس إلى دينه كانت أو في عِرْضه‏.‏ وترجمة قوله‏:‏ «فقد استبرأ»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، تواس شخص في اينى دين اور آبروكى طرف سى صفائى بيش كردى‏.‏

تحقيقُ لفظِ المُشْتَبِهَات

52- ‏(‏مشتبهات‏)‏ رُوي من الإفعال والتفعيل والافتعال‏.‏ واعلم أن المفسرينَ اختلفوا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 7‏)‏ فقيل‏:‏ ملتبسات‏.‏ واعتُرِض عليهم بأن الله تعالى قد وصف به جميعَ كتابه في موضع آخر، وقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَباً مُّتَشَبِهاً‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 23‏)‏ ومعناه هناك كتاباً يصدِّق بعضه بعضاً، لا أنه يلتبسُ بعضُهُ ببعض، فإن هذا المعنى لا يليق أن يتصف به كتاب الله تعالى كما هو ظاهر، فأخذ بعضهم معنى التصديق في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ‏}‏ أيضاً وهو مروي عن مجاهد‏.‏ وذكره البخاري في التفسير‏.‏ أقول‏:‏ والمُتَشَابَه بمعنى المُصَدق، قريب من معنى المُحكم، وليس بينهما كثيرُ فرق، مع أن الله تعالى قابل بينهما وسَمَّى الذين يتبعونَ ما تشابه منه بالزائغين‏.‏ وعلى هذا فتفسيرُ مجاهد مرجوحٌ، وكان ينبغي أن لا يذكره البخاري، والعذر عن البخاري رحمه الله تعالى يجيء في موضِعه‏.‏

فمعنى المتشابهات في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ‏}‏ هو الملتبسات، وفي قوله‏:‏ ‏{‏كِتَباً مُّتَشَبِهاً‏}‏ هو التصديق، أي مصدقاً بعضُهُ بعضاً‏.‏ فإن قلت‏:‏ إنه يوجب الانتشار في مطالب القرآن‏.‏ قلت‏:‏ لا انتشار فيه، لأن تغاير المعاني عند تغايرُ الصِّلات وإن كانت محذوفةً في اللفظ ليس من الانتشار في شيء‏.‏ فالتَّشَابُه إذا كانت صلته «على» يكون معناه الالتباس، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 70‏)‏ أي التبس علينا، وهو المراد في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ‏}‏ وإذا كانت صِلته اللام يكون بمعنى التصديق، وهو المراد في قوله‏:‏ ‏{‏كِتَباً مُّتَشَبِهاً‏}‏ يعني متشابهاً لكم، أي مصدقاً بعضُهُ بعضاً‏.‏

والسِّرُ فيه عندي أن اللفظَ إذا تغاير معناه عند تغاير الصلات يكون مشتركاً معنوياً‏.‏

52- ‏(‏لا يعلمها كثير من الناس‏)‏ أي لا يعلم حكمُها، كما عند الترمذي بلفظ‏:‏ «لا يدري كثير من الناس أَمِنَ الحلال هي‏؟‏ أم من الحرام‏؟‏»‏.‏ ومفهوم قوله‏:‏ «كثير» أن بعضاً منهم يعلمها وهم المجتهدون، فحينئذٍ يكون الاشتباه في حق غيرهم‏.‏ وقد يقع الاشتباه لهم أيضاً، حيث لا يظهرُ لهم ترجيحُ أحدُ الدليلين، كذا ذكره الحافظ‏.‏

52- ‏(‏لكل ملك حمى‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ وعندنا يجوز الحمى للإمام فقط، كما كان عمر رضي الله تعالى عنه بَنَى رَبْضةً لخيل الجهاد دون غيره‏.‏ أما الملوك فكانوا يتخذون الحِمى لأنفسهم، وذلك محظور في الشرع، وأما حِمى الله فهو مطلوبٌ لله تعالى أن لا يرعَى عبدَه حولَه، ففيه تشبيه محمودٍ بمذموم، ولا ينبغي أخذ المسائل والأحكام من التشبيهات، فاعلمه، فإنه مهمٌ، وقد يَغْلَط فيه الناس‏.‏ ثم الحديث إنما جاء على عُرْف الملوك وعاداتهم، وكان من عادات ملوكهم اتخاذُ الحمى كما علمتَ‏.‏

52- ‏(‏ألا وهي القلب‏)‏ ونِسبة القلب إلى الجسد كنسبة الأمير إلى المأمور وهو الأصل، والأعضاءُ كالفروع له، وهو‏:‏ مَعْدِنُ العلوم والمعارفِ والأخلاقِ والمَلَكاتِ‏.‏ وفي «الجامع الصغير» للسيوطي رحمه الله تعالى‏:‏ «أن القلب ملك‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»، وفي البيهقي‏:‏ أن الأَذَنَ قِمْعٌ للقَلْب يُحضِرُ المسموعات عنده من الخارج، والعينان مسلمة يتقي بهما الحجر والشجر، واليدان جناحان، والرجلان البريد، والكبد رحمة، والطِّحال ضحك، والرِّئةُ نَفَس، فإن صح هذا لدل على أن الضَّحِكَ من الطِّحَال، ولم يذكر الأطباءُ له وجهاً‏.‏ وما وَضَحَ لدي، أنه يحدث من انقباض الرئة مرة وانبساطه أخرى‏.‏ والقلبُ هو أصلُ اللطائفِ كلها عندي غير الروح، فإنها من الخارج والنفسُ مَعِدنه الكبدُ الطالبة للذات والشهوات، والقلب بعد فنائه في اللذات والهوى يُسمَّى نفساً‏.‏ وعليه مدار الصلاح والفلاح وهو مهبطُ الأنوار ومنبعُ الأسرارا‏.‏

وفي الحديث أنه لما صوَّرَ آدم، طاف به الشيطان ودخل فيه ورأى فيه منافذ قال‏:‏ إنه مخلوق لا يتمالك نفسَه‏.‏ وفي تفسير «فتح العزيز» زيادة‏:‏ وهي أن في يساره حُجْرَة مسدودة لا أدري ماذا فيها، وكان فيه القلب‏.‏ قلت‏:‏ ولما كان القلبُ مَظهراً لتجلياتِ الصمد الأحد، جعله اللَّهُ صمداً ولم يبق فيه منفذاً، فهو إذن كالقَّبةِ المُشرفةِ مسدودةٌ جوانبها، محكمةٌ أبوابُها وغرفُهَا، لا يدرى سره إلا الله العلي العظيم‏.‏